الرجل الذي لم يحقق أحلامه “السلطانية”

منذ ازاحة مرسي عن الرئاسة، لم تهدأ الحرب التي أعلنتها تركيا ضد مصر شعبا وحكومة، وبدا واضحا حجم الصدمة التي أصابت النظام التركي الذي بدأ يفقد مصداقيته داخل تركيا بعد ان انكشف أيضاً حقيقة تحالفه مع التنظيم الدولي للاخوان. في إطار هذه الحرب العدائية تعددت الممارسات التركية المعادية لمصر ابتداء من تصريحات مسؤول يهم بمختلف مستوياتهم وحتى تأمين السماء الآمنة والدعم الكامل لاجتماعات التنظيم abd el latif (1)الدولي وحلفائه في عدة مدن تركية.واكدت العديد من وسائل الاعلام ان تركيا قد احتضنت ورعت اجتماعات “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”، الذي يخطط قادته لإثارة الفوضى بمصر.
  كان آخر التجليات التركية ما قاله رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في كلمته خلال الجلسة الختامية لاجتماع التشاور والتقييم لحزب “العدالة والتنمية: “إن إشارة رابعة أصبحت علامة تندد بالظلم والاضطهاد والمذابح في كل أنحاء العالم”، اعتاد هذا السياسي التركي أردوغان الذي كان أول من رفع شعار “رابعة”، ثم سار جميع الإخوان بالعالم على نهجه، ان يتحدث عن مصر وكأنها ولاية عثمانية أو تركية، هذا الأسلوب لا يمكن وصفه الا بانه يفتقر الى اي مستوى محترم او أخلاقي في مجال العلاقات بين الدول. ومع محاكمة مرسي أصدرت الخارجية التركية بياناً بالتزامن مع أولى جلسات المحاكمة طالبت فيه الحكومة المصرية بالإفراج عن كل السجناء السياسيين بمن فيهم مرسي. وقالت: “إن تركيا وقفت دائماً إلى جانب مبدأ الشرعية”، في إشارة إلى أن مرسي هو الرئيس الشرعي.
صحيح ان وزارة الخارجية المصرية أصدرت بيانا مساء الثلاثاء الماضي عبرت فيه عن بالغ الاستياء والإدانة لما ذكره رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في كلمته، وأشار البيان إلى أن المسؤولين الأتراك يصرون على تزييف الحقائق، وتحدي إرادة الشعب المصري، وكان آخرها بيان وزارة الخارجية التركية، الاثنين، والذي يعد تدخلاً غير مقبول في الشأن الداخلي المصري. ولكن يظل السؤال: هل هذا يكفي؟
 الموقف التركي المعادي لثورة 30 يونيو ثابت ولم يتغير، وهذا الثبات يرجع لشخص أردوغان المحكوم بموقف إيديولوجي وعقائدي داعم للإخوان ومرسي منذ البداية، مغامراً بشرفه السياسي.
وقد تصاعدت مرة أخرى، حدة اللهجة التركية الساخنة ضد المصريين، وتوالت التصريحات المعادية لتصيب العلاقات المصرية – التركية بالمزيد من التدهور الذي كان قد ترافق مع قيام الشعب المصري بثورة 30 يونيو ضد جماعة الإخوان المسلمين وعزل مرسي.
الموقف التركي كان مبكرا في غضبه من تحقيق المصريين لإرادتهم يوم الثلاثين من يونيو، فبينما تحفظت دول العالم التي لها موقف متشكك مما حدث في مصر موقف الترقب لحين انجلاء الصورة فلم تطلق دولة على ما حدث في مصر وصف الانقلاب بشكل رسمي، حتى وان اتخذ الاعلام فيها موقفا محايدا، على الطرف التركي قرر زعيمها المهزوز الشعبية على عكس جميع زعماء الدول الأخرى ان يتخذ موقفا شديد العداء للمصريين، وأطلق تصريحات ضد الجيش المصري لانه تحيز لما سماه الأقلية (هذه الأقلية التي خرجت يدور عددها حول رقم أربعين مليون مصري)، وانتقد ما أسماه ازدواجية معايير الدول الغربية لعدم تسميتها ما يحدث بمصر بالانقلاب وعدم الدفاع عن مبادئ الديمقراطية وشرعية الصندوق (من وجهة نظره) وأعرب عن تقديره للاتحاد الأفريقي لتعليق عضوية مصر، ولكنه قد يغير موقفه إذا ما تغير موقف الاتحاد الأفريقي كما هو متوقع بعد زيارة وفدهم لمصر مؤخراً.
يبدو ان تاريخ الثلاثين من يونيو يشكل أزمة شخصية في عقل اردوغان، في مثل هذا اليوم 30 يونيو (حزيران) ولكن في عام 1979 بعد عام واحد على تولي  نجم الدين أرباكان، الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا، أسقطه الجيش التركي – في رابع انقلاب له منذ عهد كمال أتاتورك – من رئاسة الوزراء بعد أن نادى إلى التقارب مع إيران والبعد عن «الغرب الكافر». في هذه الفترة كانت بداية أردوغان حياته السياسية برعاية ارباكان.
بعد عدة أشهر من عزل أرباكان وفي نفس العام ألقى أردوغان خطابا وسط مؤيديه قائلا: «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا»، بسبب هذه الكلمات التي ألقاها اردوغان وسط مؤيديه سجن لمدة أربعة أشهر بتهمة إثارة الفتنة والتحريض على الكراهية الدينية، كان ذلك بعد أربعة اشهر من عزل أربا كان.
أدرك أردوغان ان الطريق الصحيح للتسلل إلى منطقة السيطرة على المسرح السياسي لا يمكن الوصول لها إلا باتباع أسلوب لا يصطدم بما يقتنع الأتراك به من ان الحفاظ على مدنية الدولة هو أمر غير قابل للمساومات السياسية، لذلك فقد وصل إلى قناعة بان يسلك طريقا طويلا ملتويا لتحقيق هدف الوصول للسلطة، ووجد ان الطريقة الأمثل هي تبني صورة إسلام أكثر وسطية، هذا الاختيار هو القادر على الصمود أمام جيش وضع هدفه الرئيسي التصدي لأي محاولة تغيير لهوية تركيا المدنية، وبذلك نجح بالفوز في انتخابات رئاسة الوزراء في عام 2003، وفي أول خطاب له أعلن عن نيته دعم ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الانضمام المستهدف كان يتطلب تاكيد الالتزم بحقوق المواطنين، وهو أمر في ظاهره يؤكد على مدنية الدولة، ولكن في باطنه يضمن تقليص صلاحيات الجيش. ووجد الجيش نفسه عاجزا عن التحرك لمواجهة ما اعتقدوه خطر على مدنية الدولة لانهم لو اتخذوا موقفا مضاد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لانه ببساطة كان سيصطدم بمطلب المدنيين وحماسهم الانضمام للاتحاد الاوربي، ولايستطيع وهو الذي قام بالانقلاب على أرباكان بدعوى حمايتهم ان يتخذ موقفا يتحدى به رغبتهم. وعلى مدى السنوات العشر التالية نجح أردوغان تدريجيا في السيطرة على الحكومة والشرطة والرئاسة والمحكمة الدستورية وأغلق المؤسسات الإعلامية المعارضة وزج بكل صحافي معارض لنظام الحكم في السجن. تمكن أردوغان من تحقيق اهدافه إنما على مدار عشر سنوات، والأهم أنه اهتم بالاقتصاد وحول تركيا من دولة على وشك الإفلاس إلى واحدة من الدول الأكبر اقتصادا في العالم.
لكنه يظل ينتمي الى عقيدته الاولى كجزء من تنظيم أممي كان يحلم من خلاله ان يرتدي تاج السلطان العثماني في العصر الحديث ولكنه فيما يبدو لم يجد الا “تاج الجزيرة”.

السياسة هى فن الرخاء لا الإفقار

2013052113691401650«إيه أخبار الأوضاع فى بحرى؟».. هذا هو السؤال الذى بادرنى به سائق التاكسى الذى ركبت معه من بين العشرات من سيارات التاكسى التى تصطف أمام مطار أسوان، انتظارا لرزق يأتى على يد زائر لأجمل مشتى صافحته عينى، لكن هذا الزائر بات عملة نادرة هذه الأيام، لذلك فإن الفائز «بتوصيلة» يكون قد حقق إنجازا يشكر الله كثيرا عليه. امتلأت الطائرة عن آخرها والسبب هو إلغاء معظم رحلات اليوم لعدم وجود ركاب كافيين لحركة الطيران المعتاد، لذلك كان القرار بأن تخرج رحلتان أو ثلاث فى اليوم بدلا من رحلات كانت تقترب من العشر رحلات يوميا. من بين الركاب نادر جداً أن تجد أجنبيا، عدد لا يتعدى أصابع اليد كانوا من بين الركاب، يبدو أنهم إنجليز قرروا تحدى تحذيرات سلطاتهم، التى ألغيت نسبيا منذ يومين فقط، ليستفيدوا من الأسعار المنخفضة بشكل كبير جداً.

هذا التوقيت من العام هو موسم الذروة، أو هكذا كان. كرر على السائق السؤال: «إيه أخبار الوضع فى بحرى؟» لأفيق من صدمة المشهد الخاوى وأجيبه أن الأوضاع قد لا تكون فى أحسن حالاتها، لكنها بالتأكيد سوف تتحسن لأنه ليس لدينا خيار آخر وأسأله: «أظن أوضاعكم هنا ليست جيدة»، ولا ينتظر لأنهى جملتى حتى يقفز عليها لينطلق شارحا وشاكيا من حالة الجمود والركود التى يعانى منها كل أهل أسوان، ويتمتم وكأنه يحدث نفسه: «خسرنا أحسن الأيام، مالها كانت أيام مبارك كان أجمل شغل عملناه فى السياحة».

ملامح الاعتناء بالمدينة مازالت باقية، لكن يبدو فى الوقت ذاته أنها عناية قديمة لا تجد من يستمر فيها، وأسأله مرة أخرى: «هل الإخوان يسببون مشاكل هنا؟» فيرد: «بالقطع (لا)»، «شوية منهم بيطلعوا بعد العشا يلفوا فى الشوارع ويروحوا». الطريق إلى المدينة وشوارعها تقريبا خاوٍ ما يسمح له بالانطلاق بسرعة بالسيارة، السرعة القصوى فوق جسم خزان أسوان كما تقول اللافتة 30 كم، بينما عداد السرعة فى التاكسى يقترب من 120 كم.

النيل هنا ليس فقط فى أجمل تجلياته، لكن هو مشهد ينافس أكثر مشاهد الطبيعة جمالا، صخور الجرانيت والجزر الصغيرة وحركة المياه تكون مشهدا خلابا، لكن مراكب كثيرة اصطفت على أحد الشواطئ ترفع راية الخواء فيفسد الواقع جمال المشهد.

«مصر علمت العالم»، هو كتاب للدكتور وسيم السيسى، اصطحبته معى لأقرأه وتوقفت كثيرا أمام جملة نسبها إلى أحد آلهة المصريين القدماء «أنوبيس» «السياسة هى طب الشعوب، لأن السياسة هى فن الإنتاج، والإنتاج هو الاقتصاد، ونحكم على مدى نجاح سياسة الحكم بكلمة واحدة، ألا وهى الرخاء». أصاب أنوبيس إلى من يدعى أنه يمارس السياسة ولا يضع فى اعتباره المفهوم الراسخ والحقيقى بأن السياسة هدفها الرئيسى تحقيق الرخاء لأبناء الوطن، أنه يقع فى خطيئة كبرى، وإذا ما طبقنا هذا المبدأ على من يمارسون فعل السياسة فى مصر هذه الأيام فسوف نكتشف أنهم جميعا مجرمون، وعلى رأس هؤلاء تقف الحكومة التى تدير أحوال المصريين وستتركهم يغرقون فى مشاكل وينشغلون هم فى ممارسة السياسة اللفظية التى تفرق الناس ولا تجمعهم ولا يختلف عنهم فى هذا بقية الساسة أو من يطلقون على أنفسهم هذا الوصف.

من حق هذا الشعب أن يعود ليشعر بأن هناك أملا وبأن ما فعله هو الثمن الذى دفعه، والأخطاء التى وقع فيها سوف تؤدى فى النهاية لأن يعيش حياة أفضل، ومن غير المقبول أن يظل الخذلان هو كل ما يحصل عليه سياسيوه، ومن يدعون قيادته، وأن يكون الخواء هو ما يشهده أهل هذا البلد فى الأماكن التى كان من المفروض أن تكون مصدرا لرخائه. عندما وصلت إلى الفندق كنت قد قررت «ألا أفاصل» السائق فى أجرته وأعطيته ما طلب، وكانت سعادته بهذا الرزق القليل دليلا على فشل من يدعون أنهم يمارسون السياسة.

آن الأوان لغلق ملف المصالحة بين فتح وحماس

264176_244775175644906_34795701_n

أعلم أن البعض سوف ينبرى لتكذيب ما أقول، والتدليل على أن «حماس» انتصرت على العدو الإسرائيلى أكثر من مرة. وهنا أطلب ممن يعتقد هذا الاعتقاد أن يعود بذاكرته إلى ما يعتبره انتصارات حمساوية على إسرائيل، ليكتشف ما الثمن الذى دفعه الفلسطينيون من أرواح ودماء، وما حجم الخسارة التى مُنِىَ بها الجيش الإسرائيلى، وسوف نكتشف أن هذه الانتصارات المُدَّعاة لم تكن إلا انتصارات كلامية وخطابية، وكنا متعاطفين معها ونصدقها، لأننا كنا نبحث عن انتصار حتى لو كان وهما.

يخرج البعض ليقول إن «(حماس) تحولت إلى قاعدة مقاومة عسكرية ضدّ الكيان الصهيونى، وقد ثبَّت هذه الحقيقة التى تأكدّت من خلال انتصارها فى صدّ حربيْن عدوانيتين كبيرتين فى العامين 2008/2009 و2012، كما تأكدّت من خلال صمودها فى وجه حصار عسكرى وسياسى واقتصادى دام إلى الآن وعلى مدى أكثر من ست سنوات، وإن هذا الوضع يكرس لما تعنيه من أهمية استراتيجية عسكرياً وسياسياً، عظيمة الأبعاد، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى والأمّة العربية والإسلامية، (مع إشارة خاصة إلى أهميتها الاستراتيجية العسكرية بالنسبة إلى الأمن القومى المصرى)». وهنا أسأل: أى أمن قومى مصرى يتحدثون عنه وهم الذين يستعرضون قواتهم فى عرض عسكرى يرفعون فيه شعار الإخوان المسلمين وعلامة «رابعة»، وكأنهم يتوعدون؟ لقد وفرت علينا «حماس» جهد إثبات أولويات الولاء لديها، وكشفت عن نفسها كجناح عسكرى لتنظيم دولى ليس هدفه بالتأكيد الفلسطينيين، ولكن أهدافه هى أهداف التنظيم التى تتخطى حدود الوطن والمواطنين. أما الإشارة إلى أن «حماس» تشكل قاعدة المقاومة العسكرية فإن هذا بات فى حاجة إلى إعادة نظر.

مع أحداث يناير التى أطاحت فى نهايتها بالرئيس الأسبق، حسنى مبارك، ومع كشف التورط الواضح لحماس، بدأت الصورة الحقيقية تظهر أمام المصريين، وبدأت «حماس» تخسر كل يوم تعاطف الشعب المصرى، خاصة بعد معرفة دور «حماس» فى الهجوم على عدد من السجون، يومى 28 و29 يناير 2011، وما ترتب عليه من خروج قيادات جماعة الإخوان التى كانت فى تلك السجون آنذاك، وآلاف عدة من السجناء الخطرين، ومقتل عدد من ضباط الشرطة والجنود، ثم الكشف المستمر لتفاصيل تورطها فى مرحلة حكم الإخوان، والكشف عن انتمائها، باعتبارها جزءا أصيلا من جماعة الإخوان المسلمين، بل هى الجناح العسكرى داخل تنظيم الإخوان. باختصار، وضح تماماً مدى ما تشكله من خطورة على الأمن القومى المصرى.

أكتب عن هذا الموضوع، اليوم، بمناسبة زيارة الرئيس الفلسطينى، محمود عباس أبومازن، إلى القاهرة، وأتمنى ألا يكون ملف المصالحة مع «حماس» هو أحد الموضوعات التى يحملها الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، فى جعبته، فقد ثبت يقينا أن «بيزنس» المصالحة هذا لا تصب فوائده فى حساب الشعب الفلسطينى، بل له أرقام حساب مختلفة، منذ اختطاف «حماس» السلطة وسيطرتها على قطاع غزة، وطرد وقتل من انتمى إلى حركة فتح. قامت مصر طوال الفترة التالية بجهود حثيثة وصادقة- أشهد عليها- من أجل إزالة العوائق أمام المصالحة بين الفصيلين الأساسيين فى فلسطين، ورغم الإدراك المصرى وقتها لحالة المماطلة الواضحة من الطرفين، ومدى استفادتهما من استمرار الأوضاع على ما هى عليه، فإن المسؤولين المصريين وقتها لم يتوقفوا، وظنوا أن توقف الجهود لإحداث المصالحة سيكون بديله الاقتتال، وإضعاف الموقف الفلسطينى بشكل عام، مما يضر بالفلسطينيين أصحاب المصلحة الحقيقية.

كذلك نرجو أن يسمع «أبومازن» ممن سيلتقيهم من مسؤولين مصريين موقفا واضحا موحدا يعى أولويات الأمن القومى المصرى، وأن يطلبوا من «أبومازن» أن يتوقف عن التلاعب بملف المصالحة مع «حماس»، وأن يحسم موقفه ليقر بأن «حماس» باتت تشكل خطرا على الأمن القومى المصرى، وإضعافا للموقف الفلسطينى، وأن عليه، الآن، التحرك فى اتجاه مصالحة وطنية بين فصائل فتح الممزقة، لتوحيدها لمواجهة «حماس» التى اختطفت القطاع لتقيم إمارتها على حساب حلم الوطن الفلسطينى. سيكون غريبا أن يكون موقف المصريين شعبا ودولة من جماعة الإخوان المسلمين ما نراه، وأن يكون جهد المسؤولين المصريين يدفع فى اتجاه إيجاد مخرج، وقبلة حياة للجناح العسكرى لجماعة الإخوان، والذى يحمل اسم «حماس».

فى ظل هذه المعطيات بات واضحا أن استمرار «أبومازن» فى الإصرار على المضى قدما فى تحقيق مصالحة لن تتم مع فصيل حماس هو استمرار فى تضييع الوقت، ويلقى بظلال من الشك حول أسباب الإصرار على بذل الجهد فى قضية خاسرة، فمن المستفيد هنا، خاصة مع إصرار الطرف الآخر على عدم بذل جهد صادق فى قضية انشقاق «فتح» التى تمتلك من مقومات الحل أكثر بكثير من وهم المصالحة مع «حماس»؟ أظن أنه آن الأوان لأن نتوقف عما يسمى «المصالحة الفلسطينية»، المقصود بها ما بين «فتح» و«حماس»، وأن تبدأ الحركة فى اتجاه مصالحة فلسطينية بمفهوم استعادة الفلسطينيين مصيرهم المخطوف فى غزة.

عداد الشرعية

عبد اللطيف المناوى

عبد اللطيف المناوى

خيب ظننا محمد مرسى، كما توقعنا جميعا فيما أظن، كان الأمل أن تكون محاكمته هو وعصبته فرصة لمراجعة مواقفهم وبدء خطوات جادة نحو المصارحة بالإثم الذى مارسوه لسنوات طويلة تركزت بشكل أساسى منذ أن اختطفوا منصب الرئاسة، كان الأمل أن يبدأوا أولى خطوات الشفاء من المرض العضال الذى أصبح ملمحا أساسيا فى شخصياتهم جميعا وفى سياساتهم وسلوكهم، وهو مرض الإنكار، لديهم قدرة غريبة بالفعل على الإنكار والاستمرار فيه بتشبث وعناد.

خرج علينا مرسى، وهو فى حالة متقدمة من هذا المرض العضال، حالة يبدو أنها اقتربت من أن يكون ميؤوسا منها. ما نشر وأذيع عن تفاصيل هذه الجلسة وما قبلها وبعدها يبين بجلاء هذه الحقيقة. لقد اقترب مرسى كثيرا من أن يكون قد أصيب بلوثة مرضية حقيقية. منذ اللحظة الأولى وحتى ما بعد انتهاء جلسة المحاكمة كان يستغرب أنه لا أحد يناديه بكلمة الرئيس، وطلب بإلحاح من المحيطين به أن ينادوه بالسيد الرئيس، وظل يكرر طوال الوقت قبل الجلسة وأثنائها وبعدها أنه الرئيس الشرعى، ظل يكررها بشكل كوميدى وهستيرى فى الوقت نفسه. هذه الحالة من الهلوسة الشرعية انتابته منذ بدأت المظاهرات ضده وجماعته إبان حكمه، واستمرت معه بعد أن ثار الشعب عليه وأطاح به ولم ينجح الزمن فى أن يهدئ منها ومن أعراضها.

لقد ظهر مرسى وهو يتباهى ببذلته التى أصر على ارتدائها، رافضا ملابس المحبوس احتياطيا البيضاء، يسير مختالا وهو يردد أنا الرئيس الشرعى، هذا المشهد ذكر كثيرين بالمسرحية الكوميدية القديمة «مطرب العواطف» عندما ظل يسير الراحل محمد عوض على خشبة المسرح وهو يصرخ حتى نهاية المسرحية قائلا: «أنا عاطف الأشمونى مؤلف الجنة البائسة». هذا المشهد الكوميدى مرشح للتكرار والاستمرار لوقت طويل.

ما لا يعلمه مرسى ومن معه أن الشرعية التى يتحدث عنها ليست حصنا يحتمى به ضد مصدر الشرعية الأصيل، وهو الشعب الذى أدمنوا إنكار وجوده. لا يعلمون أن الشرعية- التى كررها مئات المرات بل آلاف- ليست صك غفران للأبد، وهى عقد مبنى على أهداف حقيقية وإن لم تنفذ يجب أن يرحل.

ولا يمكن اعتبار صراخ بعض التابعين لمرسى فى شوارع بعض القرى والمدن للدفاع عما سموها «شرعية الرئيس» سندا أو عاملا موازنا مع رغبة الأغلبية العظمى من المصريين، هذا الخروج إن عبر عن شىء فإنما يعبر عن حالة مأساة ونزيف للأدمغة، وهو الأمر الذى يدفع للتساؤل: «كيف تكتب جماعات من الناس العبودية على نفسها؟»، وهنا تتبدى بعض الأسئلة المحورية: أى شرعية وأى سيادة يتحدث عنها أنصار الرئيس «مرسى» المعزول بقوة الإرادة العامة؟! وهل الشرعية هى شرعية الشعب أم شرعية الحكومة المتمثلة فى شخص مرسى؟!.. يبدو أن هذه التساؤلات قد حسمت سلفا فى المجتمعات المتمدنة، لكن يبدو أن أمام مرسى وأتباعه شوطا طويلا قبل إدراك ذلك.

لما شهدناه من مرسى خلال فترة حكمه فى الساحة السياسية المصرية والمحاولات المستميتة له لطرح نفسه زعيما إخوانيا عبر مشروعه لأخونة المجتمع المصرى، والتى تزخر بالتنوع الثقافى والسياسى والدينى… إلخ، كانت النتيجة الفوضى وعدم الاستقرار السياسى وتعطيل عجلة الاقتصاد وتدمير العلاقات الخارجية عبر الأطروحات الإخوانية المتطرفة وحصد مزيد من الأرواح باسم الشرعية، وذلك بعد الملاحم البطولية لشعب مصر الذى ظن أنه يدخل فى رحاب الديمقراطية وكل ما تحملها من معانٍ سامية، من دستور يتراضى عليه الجميع والحريات، إلا أن الخيبة الكبرى عندما ذهبت كل هذه التضحيات هباء، عندما أتى بمستبد يمارس الاستبداد باسم شرعية الانتخاب، عمل مرسى على تقويض أركان المجتمع، وعبث بالدستور، واستشرى الفساد، وأظهر راديكالية عقيمة فى إدارة الدولة، كان يمكن أن يعصف بالنسيج المجتمعى المصرى إلى ما لا تحمد عقباه، والآن واضح كوضوح الشمس فى وضح النهار ما أفضت إليه العقلية الإخوانية، كل هذه الأسباب جعلت المؤسسة العسكرية، وهى واحدة من المؤسسات التى تعبر عن الإرادة العامة- إن لم تكن الوحيدة حاليا- تقف بجانب الشعب، مستندة إلى السلطات والصلاحيات المخولة لها من الدستور المصرى، والذى لا يدع مجالا للشك أن استمرارية مرسى فى الحكم مهدد- بل مدمر- أساسى لأسس البناء المصرى. كما ذكرت يبدو أننا سنعيش الفترة المقبلة مع مشهد عبثى يقوده مرسى مكررا، فى حالة باتت تثير السخرية، صرخته الشهيرة: «أنا الرئيس الشرعى، أنا الشرعية، أفدى الشرعية بحياتى، حافظوا على الشرعية، ازحفوا من أجل الشرعية إلى الشوارع والميادين، الشرعية تدافع عن الشرعية، والشرعية للحفاظ على الشرعية، ويجب على كل مواطن أن يحمى الشرعية، وفى ظل الشرعية محمد مرسى متمسك بالشرعية»، هذا الصراخ الهستيرى والتكرار المستمر يتطلب عدادا لعد مرات الصراخ بالشرعية، وهو أمر يثير، كما قلت، الضحك الممزوج بالألم لما وضعنا أنفسنا فى مواجهته.

بواسطة عبد اللطيف المناوي نشرت في مؤلفات

جماعات خارج السيطرة

العناد والإصرار على تكرار الخطأ يبدو احيانا احد سمات السياسة الخارجية الغربية، خاصة الامريكية. الموقف والحسابات الامريكية من تيار الاسلام السياسي مازالت صعبة الفهم والاستيعاب. عندما أرى اليوم ذلك الإصرار الأمريكي على دعم تجربة الإسلام السياسي وتمكينه من الحكم أصاب بالدهشة. فهم يكررون الخطأ مرة أخرى، ويعتقدون هذه المرة ان شغل جماعات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية سوف يصرف عنهم خطورة هذه الجماعات، ولذلك عملوا لسنوات من اجل تنفيذ هذا المشروع، ويمكنا أيضاً ان نلمس ذلك الإصرار على الجهل، منهم او منا، بان مخططهم هذا يجنبهم المخاطر.
اذكر انه طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة تقريبا في حديثي إلى سياسيين وعلاميين غربيين حول الدعم الغربي لجماعات الإسلام السياسي أحذرهم من أنهم سوف يشهدون حادي عشر من سبتمبر آخر، وان محطات مترو الإنفاق البريطانية سوف تشهد مثل ما حدث في السابع من يوليو عام ألفين وخمسة، وان ما شهدته عواصم ومدن أوروبية من أحداث إرهابية مرشح للتكرار طالما تجد هذه الجماعات دعما وغض طرف من قبل هذه الدول. اعتقدت هذه الدول وعلى رأسها أمريكا انه طالما هذه الجماعات بعيدة عنهم ومحصورين في بلادهم فهم في أمان منهم، وهم هنا لا يدركون أنهم إنما يعطونهم سماء آمنة يتمكنون من خلالها ان يجتمعوا لينظموا 3bd el latifانفسهم وسوف تكون هذه الدول من بين الأهداف.
النماذج التي تثبت ما أقول كثيرة، لكن تجربة تنظيم القاعدة تقف كأكثر التجارب دلالة على ما أقول. فالقاعدة أو تنظيم القاعدة أو قاعدة الجهاد هي منظمة وحركة متعدد الجنسيات، تأسست في الفترة بين أغسطس 1988 وأواخر 1989 / أوائل 1990، تدعو إلى الجهاد كما تعتقده. في البداية، كان الهدف من تأسيس القاعدة التي أسهمت في إنشائها أمريكا محاربة الشيوعيين في الحرب السوفيتية في أفغانستان، دعم الولايات المتحدة وحلفائها كان واضحا، كانت تنظر إلى الصراع الدائر في أفغانستان بين الشيوعيين والأفغان المتحالفين مع القوات السوفيتية من جهة والأفغان المجاهدين من جهة أخرى، على أنه يمثل حالة صارخة من التوسع والعدوان السوفييتي، او هكذا سوقت الموقف أمام العالم وبخاصة حلفائها الذين تولوا عنها عملية التمويل والتجنيد. موّلت الولايات المتحدة عن طريق المخابرات الباكستانية المجاهدين الأفغان الذين كانوا يقاتلون الاحتلال السوفيتي في برنامج لوكالة المخابرات المركزية سمي بـ “عملية الإعصار”. في الوقت نفسه، تزايدت أعداد العرب المجاهدين المنضمين للقاعدة (الذين أطلق عليهم “الأفغان العرب”) للجهاد -كما يعتقدون- ضد النظام الماركسي الأفغاني، بمساعدة من المنظمات الإسلامية الدولية، وخاصة مكتب خدمات المجاهدين العرب، الذي أمدهم بأموال تقارب 600 مليون دولار في السنة تبرعت بها حكومات ومؤسسات وأشخاص اعتقدوا وقتها أنهم ينصرون الإسلام، ولم يدركوا أنهم لم يكونوا سوى ممولين لصنيعة أمريكية سوف يدفعون هم ثمن مشاركتهم في صنعها يوما ما، والمشكلة ان بعضهم مازال غير مدرك لذلك.
ودفعت أمريكا نفسها الثمن عدة مرات، لكن يظل ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر هو الثمن الأعلى، وان كانت الإدارات الامريكية المتعاقبة تتحمل، كما قلت، المسؤولية عن دماء مواطنيها على يد صنيعتهم، ولن يخفف من ذلك ما ادعوه من حرب على الإرهاب راح ضحيتها مئات الآلاف يشاركون في تحمل مسؤولية دماءهم. ولن يخفف عنهم أيضاً قتلهم لصنيعتهم أسامة بن لادن الذي سيظل حاضرا في أذهان صانعيه حتى بعد ان ألقوا بجثته في قاع المحيط.
ليس الأمريكان والغرب وحدهم هم من يقعوا في هذا الخطأ ولعل ما فعله الرئيس السادات عندما أراد أن يواجه منافسيه السياسيين في ذلك الوقت من اليسارين والناصريين فاستحضر قوى الإسلام السياسي المتمثلة وقتها في جماعة الاخوان المسلمين التي كانت قياداتها وقتهاما بين هاربة ومسجونة فأخرجهم وأعادهم ليستخدمهم، أو هكذا تصور، في مواجهته السياسية. ولم يقف به الأمر عند هذا الحد بل خلق الجماعة الإسلامية في الجامعات لنفس الهدف، مواجهة نفوذ وسيطرة اليسار والناصريين على الجامعة، فخرجت الجماعة الإسلامية مدعومة بأمن النظام وحمايته ودعمه السياسي. لم يدرك السادات وقتها خطورة انه اطلق ما لن يستطيع ان يتحكم فيه، أو لعله أدرك ذلك في لحظاته الأخيرة وهو يعاني آلام الرصاص الذي اطلق عليه.الخطأ الكبير أنهم لا يدركون ان السيطرة على حركة جماعات الاسلام السياسي ليست سهلة، وأيضاً هم لا يعترفون بالحدود والمسافات.
أظن ان هذه الأفكار من المهم ان تكون حاضرة في أذهان من يحاولون الترويج لمفهوم إدارة مفاوضات بين الدولة وهذه الجماعات تحت مسميات مختلفة جميعها تهدف في النهاية الى فتح النافذة لهم ليعودوا من خلالها بعد ان طردهم الشعب من أوسع الأبواب. من الخطورة بمكان تحدي المزاج العام والإرادة الشعبية.

بواسطة عبد اللطيف المناوي نشرت في 7 أيام

هل يمكن أن يفاجئنا مرسى ويراجع نفسه؟

عبد اللطيف المناويimages1

خدعت جماعة الإخوان المسلمين قطاعات واسعة من المصريين عندما حملت شعارا مغريا يدخل السكينة والاطمئنان إلى قلوب كثير ممن سمعوه، هذا الشعار هو «نحمل الخير لمصر»، وبعد عام كامل من حكم مصر اكتشف معظم المصريين أن صحيح الشعار هو «نكره الخير لمصر»، وثبت هذا فى الشهور الأربعة التالية لإسقاطهم، ومازال يتأكد يوما بعد يوم.

عندما يجلس محمد مرسى، اليوم، ليواجه قضاة مصر لحسابه عن جزء مما فعل فى أهل مصر ليته يتخلص من حالة الإنكار التى عاش هو وجماعته فيها طوال فترة حكمهم، ليته يكون قد راجع نفسه فيما فعل وفيما جنت يداه وأيدى جماعته، التى لم تحمل سوى الخراب لمصر. ليته يكون قد ندم على كل ما فعل وعلى خطابه قبل الأخير، الذى قرر أن يقدم فيه للشعب المصرى كشف حساب عن عامه الأول فى حكم مصر، فألقى، بدءا من مساء الأربعاء السادس والعشرين من يونيو وحتى الساعة الأولى من يوم الخميس، خطابا مطولا استغرق ساعتين و25 دقيقة، ليتحول، بعد هذا الخطاب، من رئيس محكوم عليه بالرحيل عن منصبه إلى رئيس مطلوب محاكمته على جرائم قذف وسب و«إهانة» وتشهير.

لقد قدم الإخوان المسلمون رؤيتهم للنهوض بمصر الجديدة، من خلال برنامج أطلقوا عليه «النهضة»، وكانت النتيجة حالة وكسة تامة غرقت فيها مصر باقتصاد ينهار وخدمات تتلاشى، وتوازت مع ذلك عمليات سطو منظم من قبل قيادات الجماعة على مقدرات الاقتصاد الوطنى. وصل الاقتصاد المصرى، من خلال برنامج «النهضة»، إلى الحضيض بوصول احتياطى النقد الأجنبى إلى قرب حد العدم، وزيادة فى الدين الخارجى والداخلى، مع ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، ووصل التضخم إلى أعلى درجاته منذ سنوات، وتصاعد مؤشر البطالة بين الشباب.

لم تختلف حالة السياسة الخارجية المصرية عن حالة الاقتصاد المنهار، فقد وضع الإخوان مصر فى حدود ما يتفق مع رؤيتهم، لكون مصر جزءا من الدولة الإسلامية لا دولة ووطن، ولهذا تقزم دور ومكانة مصر إلى حد كبير وقت حكم الإخوان رغم طنطنتهم التى كانت تدعى عكس ذلك. كان الارتباك هو سيد الموقف. لقد انعكس الفشل فى إدارة الشؤون الداخلية للدولة المصرية، على السياسة الخارجية لمصر زمن الإخوان، فكانت جولات مرسى استعراضية أكثر من أى شىء، خاصة أنه قام بـ25 زيارة خارجية لدول العالم دون أى نتائج ملحوظة على أرض الواقع.

نجح الإخوان وصنيعتهم مرسى فى خلق حالة من الاحتقان الداخلى غير المسبوقة، ولكنهم نجحوا فى توحيد المصريين ضدهم، وذلك بأسلوبهم الذى تعامل بأكبر قدر من الاستهانة بالمصريين، مسلمين ومسيحيين، لم يهتموا إلا بالسيطرة على مفاصل الدولة. كان المهم لديهم إحكام القبضة على مصر بأى شكل حتى لو تحولت إلى خراب. ومن هنا كان هذا القدر الكبير من التفريط فيما اعتبروها ثوابت وطنية، تحولت مصر فى عهدهم إلى سماء آمنة لإرهابيى العالم وفقدان السيطرة على سيناء، بل وعرضوا جزءا منها للبيع فى أطراف سياسية وقانونية واقتصادية خادعة. حجم الضرر الذى سببوه لمصر بحق كبير كبير.

هل يمكن أن يراجع محمد مرسى نفسه، وأن يتذكر ما حدث، وأن يمتلك الشجاعة ليعترف بأنه أخطأ فى حق الوطن والناس؟ هل يمكن أن يواجه نفسه والمصريين بأنه أهان المنصب وفرط فى حقوق الشعب وانتهك ثوابت الدولة؟ ليته يفعل، ليته يتمكن من أن يخرج من جلباب الجماعة، التى حبس نفسه وحبسنا معه فيه، ليته يتخلص من حالة الإنكار التى هى مرض عضال يمسك بأعضاء الجماعة جميعهم، سواء فى الحكم أو مطاردين، ليته يتمكن من أن ينظر نظرة حقيقية إلى نتائج عام من حكم الجماعة التى استخدمته أداة دون عقل، فكان منفذا طيعا لكل ما طلب منه وأصبح بحق رئيساً كارتونيا أو أشبه بلعبة الماريونيت على خشبة مسرح تحركها الخيوط بأيدى قيادات الجماعة الحقيقيين، وهو لا حول له ولا قوة إلا السمع والطاعة والتنفيذ. ليته يستطيع أن يواجه نفسه قبل أن يواجه الشعب المصرى من وراء قفص الاتهام.

سلوكيات مريضة تعمق أزمتهم ولا تحلها

IMG_0132عبد اللطيف المناوي

ما تتعرض له مصر الآن هو مؤامرة من بعض أبنائها تدعمهم وتصرف عليهم أطراف إقليمية ودولية، الهدف الرئيسى هو خلخلة أركان الدولة ودفع الشعب إلى حالة من التذمر الذى يمكن أن يصل به إلى الثورة على أوضاعه مرة أخرى، فتسقط الدولة ويتحقق الهدف القديم الذى فشلوا فيه حتى الآن وهو «سرينة» الحالة المصرية، أى أن تكون مصر كسوريا فى وضعها الراهن، بلد متناحر ممزق أهله، مقزم جيشه ومنهك. ما يفعله أتباع هذه الجماعة ومن يسوقونهم بالمال هو نشر حالة من الفوضى والانتشار ولو بأعداد قليلة فى أماكن متعددة بأصوات عالية لإعطاء الانطباع أنهم يشكلون حضورا حقيقيا كبيرا، وهم لا يعلمون هنا أنهم بهذا الشكل يتحولون إلى ظاهرة صوتية تصيبنا بالصداع، لكن لا تحقق نتائج. ولا يتورع هؤلاء عن استخدام وسائل شريرة لنشر هذه الفوضى وتحقيق الوجود الأجوف، وهذا يفسر سلوكهم العدائى على الأرض، وهو سلوك يتسبب فى تحقيق جزء من مخططهم وهو إحداث حالة ارتباك فى الحياة اليومية، ومن بين هذه الآليات الشريرة استخدام وسائل الإعاقة للطرق وابتكار وسائل جديدة لشل حركة المرور فى العاصمة، من بينها تعطيل سياراتهم على الكبارى والمحاور المهمة مروريا، والتظاهر إن أمكن فى مناطق تؤدى إلى إعاقة الحركة وتتسبب فى اشتباكات مع الأمن أو الأهالى ليصرخوا بعد ذلك فى وسائل إعلامه يشتكون من سلوك نظام «الانقلاب» مع المتظاهرين «السلميين» الذين لا يفعلون شيئا سوى إفساد حياة البشر حولهم، ولا بأس من بعض الجرحى والقتلى. وكاد يكون من بين ضحايا هذه السلوكيات المريضة صديق لى كاد يصاب فى حادث عندما كان فى طريقه من مطار القاهرة إلى فندقه، واختلت عجلة القيادة فى يد السائق بعنف بسبب الزيت الملقى على مطلع كوبرى أكتوبر، لم يفهم الرجل الذى يزور مصر لأول مرة بعد سقوط الإخوان المنطق الذى يجعل مواطنين من ذات البلد يمارسون أفعالا شريرة تجاه إخوانهم، أو هكذا يفترض، وعندما سمع حكايات أخرى لم يستطع أن يصدق أن يكون هذا السلوك المريض هو رد فعل لعقلاء.

تتحدث أطراف مختلفة من المتعاطفين مع الجماعة ومن حلفائها المعلنين والمتخفين وممن يدعون الحكمة والعقل عن مصالحة وطنية، وسوف أجارى هذا المنطق فى الحوار، وأؤكد أنه لا مجال لعيش مستقر دون أن يكون المجتمع فى حالة مصالحة حقيقية، لكن الأمر الأكيد هنا أن هذه المصالحة يجب أن تكون على أسس وقواعد تقرها أغلبية المجتمع، والأمر الآخر أن من أخطا عليه أن يتحمل مسؤولية خطئه ويعلن اعترافه بالخطأ ويطلب من المجتمع السماح على ما فعل. وأتمنى، وإن كنت لا أعتقد أن هذا سيحدث، أن يقف محمد مرسى غداً أمام المحكمة ليعتذر للمصريين عما فعلت يداه ويد جماعته فى الشعب المصرى، وعن الخراب الذى كانوا سببا فيه، وعن الوضع الذى يدفعون الوطن إليه فى محاولة لإرباكه وإسقاطه. لا مجال هنا لمصالحة دون مصارحة واعتذار عما جنت أياديهم.

والأكيد أن شعار المصالحة الوطنية يبقى فارغا من مضمونه إذا لم تسبقه المصارحة، حيث يمكن أن يكون كلمة حق يراد بها باطل. ففى تجربة جنوب أفريقيا الأشهر فى هذا المجال، اعترف الجناة أمام الشعب، وأمام ضحاياهم (إن كانوا أحياء)، وذوى الضحايا، وطلبوا الصفح والسماح والعفو منهم. وقد يكون ذلك أحد المداخل المهمة لتهيئة الأوضاع لمصالحة حقيقية، وهذا لا يقتصر فقط على جماعة الإخوان التى كانت حاكمة بل على كل من مارس عملا عاما وشاب موقفه تساؤلات، ينبغى حسم هذه الشوائب ليبدأ الجميع العيش فى ظل مجتمع تخلص من عقده المتبادلة بين أبنائه.

وقد يكون من المناسب استعادة حكاية مفوضية الحقيقة والمصالحة Truth and Reconciliation Commission -TRC والتى كانت هيئة لاستعادة العدالة على شكل محكمة شُكلت فى جنوب أفريقيا بعد إلغاء نظام الفصل العنصرى. الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان تمت دعوتهم للإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واختير بعضهم لجلسات إفادة عامة (مذاعة). مرتكبو العنف كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية، وكانت الشهادات تتم أمام اللجنة المنعقدة بهيئة محكمة، ويقوم مدعون بجلب ضحايا ليقدموا شهادات مضادة بغرض الوصول إلى الحقيقة.

وكان بإمكان اللجنة منح عفو للمتهمين ما لم يرتكبوا جنايات، وتقرر اللجنة موعد منح الأهلية السياسية التى تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية، التى قد تكون مباشرة بعد المحاكمة أو بعد بضع سنين أو يـُحرم منها.

هذه التجربة التى أسس لها الزعيم الأفريقى نيلسون مانديلا وتولاها القس ديزموند توتو- الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984- ورفاقه، الغاية منها كانت ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان للبناء للمستقبل، دون إجراءات عقابية على تجاوزات الماضى. الحصيلة جاءت إيجابية جدا حتى الآن، ومنها انطلقت جنوب أفريقيا على طريق الديمقراطية وتداول السلطة.

مفوضية الحقيقة والمصالحة لعبت دوراً محورياً فى إعادة اللحمة الوطنية دون إهدار لحقوق ضحايا النظام السابق، ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة إعادة تأهيلها.

وقد يكون التعبير الأخير دقيقا فيما يتعلق بتيار الإسلام السياسى، وعلى رأسه جماعة الإخوان، أظن أن احتياجهم إلى تأهيل متعدد الجوانب قد يكون خطوة مهمة ينبغى اتخاذها قبل بدء مشروع المصالحة. سلوك الجماعة وتابعيها خلال فترة حكمهم والأسابيع التالية للتخلص منهم حتى الآن يثبت أنهم فعلا فى حاجة إلى إعادة تأهيل ذهنى ونفسى وقيمى، هم بحاجة ليدركوا أن هذا القدر من السواد الداخلى والرغبة فى الانتقام لن يؤدى إلا إلى عزلهم شعبيا إن طال الوقت أو قصر، وفرصتهم الأولى أن يفاجئنا «مرسى» ببداية الطريق غداً فى محاكمته فيصارحنا بتجاوزاته وجرائم جماعته ويطلب العفو.

متى يضحك المصريون؟

2novعبد اللطيف المناوي

بلغت درجة تقديس القدماء المصريين للنكتة أنهم جعلوا لها إلهة وزوجوها لإله الحكمة. وهذا هو بالضبط التفسير الأقرب لارتباط النكتة لدى المصريين بالتعبير عن موقفهم من الحياة بكل تفاصيلها، وإذا ما تراجعت النكتة في المجتمع المصري وسادت روح الاكتئاب فإن هذه علامة خطيرة على أن الأزمة كبيرة. مثل هذه الأجواء كانت قد سيطرت على مصر في الأشهر الأخيرة لحكم “الإخوان” عندما أصيب المصريون جميعاً، عدا قلة، بحالة حادة من الاكتئاب كان يمكن أن نلمسها بين المصريين داخل مصر وخارجها.

الضحكة على وجه المصري الأصيل تبدو وكأنها محفورة عمرها من عمر بدء حضارته، الضحكة على الوجه تخفي خلفها تفاصيل حياة بشقائها وحلوها ومرها. وقد استخدم المصريون منذ القدم سلاح الضحكة والنكتة في مواجهة كل الصعوبات الحياتية خاصة الاقتصادية والسياسية. مصر رغم غناها البشري والثروة الطبيعية لم تعش كثيراً في حالة يسر اقتصادي، بل واجه أهلها أو قطاع كبير منهم صعوبات اقتصادية، وفي مجال السياسة فإن علاقةً شديدة الخصوصية والتعقيد ربطت المصري بالسلطة السياسية، وهذا جدير بحديث آخر في وقت آخر. هذه العلاقة دفعت المصري إلى أن يبحث عن وسائل مختلفة يعبر بها عن مواقفه التي لا يأمن أن يعبر عنها بوضوح وصراحة، كما أنه يقاوم ظرفه الاقتصادي الصعب بالضحك عليه واختلاق النكات عن صعوبات حياته. ستلاحظ أن المصري عندما يلقي نكتة فإنه يفعل ذلك لا من أجل إضحاك من يسمعها، بل يسعى إلى أن يضحك مع ضحك من يسمعها، هو باحث عن البسمة من أجل الحياة حتى لو كانت الضحكة على ظروف حياته. الضحكة هي رغبة في الحياة. يوصف المصريون بأنهم “أبناء نكتة” يلجأون إلى السخرية والضحك، إما للتعبير عن الرأي أو لدفع الهم ومحاولة لتجاوز الواقع المعيش.

نظريات علمية حاولت تفسير ظاهرة النكتة، إحداها يعتبرها فرعونية الأصل، فيقال إن المصريين القدماء اعتقدوا أن العالم خلق من الضحك فحين أراد الإله الأكبر أن يخلق الدنيا أطلق ضحكة قوية فظهرت السماوات السبع، وضحكة أخرى فكان النور والثالثة أوجدت الماء إلى أن وصلنا إلى الأخيرة خلق الروح، وظهرت في البرديات رسوم كاريكاتورية وعلى قطع الفخار أيضا تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية احتفظت بها متاحف العالم، واستخدم المصري القديم الحيوانات للسخرية من خصومه السياسيين، فهناك صورة فيها فئران تهاجم قاعة للقطط، والفئران تمتطى العجلة الحربية وتمسك الحراب والدروع حاملة السهام والأقواس، أما القطط فترفع أيديها مستسلمة. وقصد المصريون القدماء أن يمثلوا الهكسوس بالفئران هم وغيرهم من الغزاة، أما القطط فترمز إلى حضارة شعب مصر.

لم يستطع من احتل مصر على مر العصور مقاومة النكتة المصرية، الرومان عندما احتلوا مصر حرموا على المحامين المصريين دخول محاكم الإسكندرية لأنهم كانوا يسخرون من القضاة الرومان ويهزأون من ضعفهم في تحقيق العدالة، فاستخدموا النكتة والقافية للدفاع عن السجناء السياسيين. وللشاعر الروماني ثيوكربتوس مقولة شهيرة قالها قبل الميلاد بحوالي 200 سنة «إن المصريين شعب ماكر لاذع القول، روحه مرحة».

عندما جاء الاحتلال العثماني لمصر كانت السمة الغالبة عليهم الغطرسة والتوتر، وما ميز أشكالهم الكروش الكبيرة التي وضعت عليهم مسحة من الكسل وضيق العقل، فسخر المصريون من “نفختهم الكاذبة”، فيقول الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»: “لقد نكّت المصريون على الباشا التركي وحولوه إلى أغنية لحنوها ورددوها (يا باشا يا عين القملة مين قال لك تعمل دي العملة، ويا باشا يا عين الصيرة مين قال لك تدبر دي التدبيرة»، وجاء ذلك كرد فعل على قسوة الأتراك وتعاملهم الفظّ مع المصريين كعبيد. أطلق المصريون “قفشاتهم” اللاذعة التي نالت من المحتل الفرنسي والتي كانت تنال من خلاعة ومجون جنود الاحتلال، فانزعج نابليون بونابرت من سخرية المصريين، فأمر أتباعه بإلقاء القبض على من يطلق النكات على الفرنسيين، لتكون النكتة لأول مرة في التاريخ جريمة يعاقب من يرتكبها بالقتل أو الضرب. وأثناء الاحتلال الإنكليزي عندما ظهرت نوعية جديدة من المقاهي أطلق عليها المصريون «المضحكانة الكبرى»، حيث يجلس روادها ليطلقوا ضحكاتهم عالياً والتي تنال من المحتل البريطاني وطريقته الخشنة في التعامل، فقامت السلطات الإنكليزية لأكثر من مرة بإغلاق المضحكانات.

أبدع المصريون في كيفية تفجير النكتة السياسية، فالمصري تبدأ ثورته عندما تعجز الفكاهة عن تحمل الواقع، فعندما يتوقف المصريون عن التنكيت فهذا نذير غضب سوف ينفجر سريعاً، وهذا ما حدث وقت حكم “الإخوان”، بدا وكأن المصري يفقد سلاح مقاومته للواقع وعجزت كل الضحكات أن تجعله يصبر على قسوة ومرارة الواقع الذي كان يعيشه فخرج ليطيح بهم ويستعيد مصيره، ويستعيد قدرته على الضحك كسلاح لا يسقط من يد المصري على مر العصور.

بواسطة عبد اللطيف المناوي نشرت في الجريدة